تهتم مجلة سومر بنشر:

12‏/06‏/2018

عطلة نهاية الحياة.. قصة قصيرة بقلم القاصة: ريتا الحكيم





 الطريق المؤدي إلى السّوق ينوء بالعابرين، كلّ منهم يحمل ما لَذّ وطابَ من خضار وفواكه ولحوم، إمّا هم عائدون منه أو ذاهبون إليه. المفارقة الكبرى هي أنهم عندما يسلكون هذا الطريق للتبضّع، لا تسعُهم الدنيا من الفرحة، يختالون في مشيتهم وهم يتفحصون المنتجات وما إن يسألون الباعة عن سعرها، حتى يُصابون بالدّوار أو تنحني رقابُهُم على أجسادِهم هرباً من الغوص أكثر في تسعيرة بقية المواد.

أنا واحدٌ من هؤلاء الذين غالباً ما يعودون بخُفّي حُنين، دون أن يشتروا أيّ شيءٍ، لكنني اليوم تحاملتُ  على امتعاضي وقررتُ أن أرفّهَ عن الأولاد، خاصةً وأنّنا في عطلة نهاية الأسبوع، ولا أملكُ سيارة تقلّهم إلى الشاطئ أو إلى أيّ مكانٍ آخَرَ؛ فعقدتُ العزم على أن يكون الغداء دسماً بعد أسبوع من صومٍ قسريّ بسبب قلّةِ ذاتِ اليَدِ.

 سأشتري ديكاً يكفينا نحن الأربعة. عند البائع الذي تفوح منه رائحة الدم، وقفتُ في طابورٍ وأمامي امرأة متوسطة في العمر، تخشخش أساورُها كلما أطلقتْ أصابعَها لتصففَ غرّتها أو لتعبثَ بخصلاتِ شعرها. هالني ما رأيتُ من أكوامِ الفائضِ عنْ حاجةِ هيكلها العظمي، تلالٌ..في تسلّقها مشقةٌ، ووديانٌ.. في عبورها مَذَلّةٌ، هكذا بدتْ لي تلك المرأةُ ذات الشّعر الأشقر المصبوغ بموادَ رخيصةٍ جداً، حتى أنّها لم تتقِنْ ما اقترفَتْهُ يداها بحق شعرها الذي ظهر لونه الحقيقي في كل هزّة رأس تفتعلها لتُعبّرَ عن نفاد صبرها من طول الانتظار.

 على رقبتها العارية، بدأتِ السّيول الناتجةُ عن تعرّقها، تُشَكّلُ دوائرَ وخطوطاً مُتَعرّجَةً، بحركة مُفاجئةٍ أخرجَتْ مروحتَها اليدويّةَ المُتآكلةَ الأطرافِ، وبدأتْ تحرّكُها ذات اليمين وذات اليسار، في محاولةٍ منها للتخفيف من اندلاق العَرَقِ.
 تملّكني فضولٌ في أن أرى وجهَها؛ فكلّ هذا الوقت وهي في وضعيةٍ واحدةٍ، لم تلتفتْ إلى الوراء أبداً، ربما كانت تراقبُ البائعَ وهو يقطعُ الدّجاج، علماً أنني أكره هذا المنظر ويشعرني بالغثيان والإقياء.
 حين حلّ دورُها، طلبَتْ منه بثقةٍ وعزيمةٍ أثارتْ حفيظتي بعض الشّيء،"أريد عشرَ رِقابٍ"، هذا ما بادرتْ به البائعَ الغارقَ بالدّمِ. صعدَ الدّم إلى رأسي وأحسستُ وكأنه سينفجر ليطرطشها، ويُلَوِنَ البقعَ المتناثرةَ على ملابسِها بالأحمر. تسائلتُ حائراً عن كيفية تجهيزها لتصبح صالحةً للأكل.
 وميضٌ في ذاكرتي نقلَني إلى مكانٍ يشبهُ هذا المكان في كلّ شيءٍ، أذكرُ أنّنا كنا أحدَ عشر رقبةٍ تنتظر الذّبحَ عندَ كلّ شروقٍ، يتقلصُ عددُنا يوماً بعد يومٍ إلى أن بقيتُ وحيداً بعد أن سيقَ الجميعُ إلى الموتِ وتدحرجتْ رِقابُهُم على جثّتي، وأنا الناجي الوحيد ولا أدري كيف حدث ذلك. هنا يأكلون الرِقابَ لأنّها رخيصة الثّمن، وهناك يقطعونها لأنها تهدّدُ أمن البلاد على حدٍ تعبيرهم. عدتُ أدراجي من السّوقِ والغضبُ ينهشُ ما بقيَ من رباطةِ جأشي، خاليَ الوِفاض،ِ مَحْنِيّ الظّهرِ، أتلمّسُ رقبتي لأتأكدَ من أنّها ما زالت عالقةً على جسدي، في سعيٍ لأن أجدَ بديلاً لغداء اليوم، ومقتنعاً تماماً، بأنّ حياتَنا تشبهُ كلماتِ أغنية "عشر عبيد زغار" التي تصدح الآن في سمائنا وتهزّ دعائمَنا.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق