تهتم مجلة سومر بنشر:

13‏/06‏/2017

لم أتذوقِ السمكَ يوما.. قصة قصيرة بقلم الأديبة: ريتا الحكيم


لم أتذوقِ السمكَ يوما
إحجامي عنْ تناولِ ثمارِ البحرِ لمْ أعرفْ سببَهُ أبداً، علماً أنني نشأتُ في عائلةٍ تعشقُ كلّ ثمارِهٍ، وحديَ، الخارجُ عنْ السربِ، تُضطرُ أمي لتحضير صنفٍ آخرَ لي، في كل مرةٍ يتصدرُ فيها السمكُ طاولةَ الغداءِ، أنزوي بعيداً عنهم كي لا تلتقي نظراتي بعيونِ السمكِ الناضجِ والتي تبدو لي وكأنها خرزاتٌ باهتةٌ من عهدٍ قديمٍ. أتناولُ وجبتي ولا أدخلُ المطبخَ أو غرفةَ الطعامِ إلا بعدَ انتهاءِ وليمةِ المستحاثاتِ تلك، هكذا كانتْ تبدو لي بلونها الترابي بعدَ قليها بالزيتِ.
 كل مساعي أبي في إقناعي بتذوقِهِ ولو لمرةٍ واحدةٍ باءتْ بالفشلِ، مع أنني أعشقُ البحرَ والسباحةَ، أهربُ إليهِ من صخبِ الحياةِ، أفترشُ رمالَهُ الذهبيةِ لساعاتٍ طويلةٍ، في محرابهِ أتأمل شروق الشمسِ أو رحيلِها المؤقتِ خلفَ الأفقِ، لا أدري ربما كنتُ أرى في شروقها ولادتي وفي رحيلها موتي، ومنذ أن توطدتْ علاقتي بهذه المياه الزرقاء وأنا أولدُ عندَ الشروقِ وأموتُ موتاً سريرياً عندَ الغروبِ.
 الرابطُ الروحي بيني وبين البحر جعلني أعتبرُ أنهُ تحتَ وصايتي، ولا يحقُ لأحدٍ أن يقتربَ من مخلوقاتهِ على مختلفِ أنواعِها، في كثير من الأحيانِ يتهيأ لي أننا أسماكٌ عاقبَها الله وخصّها بالعيشِ على اليابسةِ، وكم تمنيتُ أن ننالَ منهُ العفوَ ونعودَ إلى قيعانهِ المتراميةِ الأطرافِ.
 ألا يشبهُ صيادو السمكِ حكامَ البلادِ في سعيهِمْ للقتلِ واصطيادِ الأفكارِ واعتقالها في الشباكِ والزنازينِ؟ هناكَ قاسمٌ مشتركٌ يجمعهمُ وهدف واحدٌ يخططون له بمهارةٍ، وهذا بحد ذاته سببٌ وجيهٌ يجعلني لا أصدقُ أياً منهُمْ.
 ذاتَ شرودٍ على الشاطئِ اللازوردي، طرقتْ بابَ خلوتي "نها"، بعينيها الزرقاوين أسَرتْني وأنا العاشقُ القديمُ لزُرقةِ البحرِ بكل تدرجاتِها، قامتُها الممشوقةُ أكدتْ لي نظريتي في أننا جميعاً كنا أسماكاً فيما مضى؛ فهي تشبهُ سمكةَ الميرلان، تتلوى في مشيتِها بانسيابيةٍ وكأنها تسبحُ في الماء، وهذا ما حدا بي لأن أتمسكَ بها وأتلهفَ لرؤيتها دوماً.
 حين ضممتُها إلى صدري لأولِ مرةٍ، شعرتُ أنني أحضنُ المحيطاتِ الخمسةِ، وأن قلبيَ يخفقُ في صدرِ كل الكائناتِ المتواجدةِ فيها، حتى أنّ "نها" دُهِشتْ من البللِ الذي تغلغل في ملابسي وصرتُ أقطرُ ماءً كغيمةٍ ماطرةٍ.
 لطالما حدثتُها عنْ أمنيتي الوحيدةِ في شَق أمواجهِ والارتحالِ إلى حيثُ مسقط رأسي بينَ شعابِهِ المرجانيةِ، وكمْ زينتُ لها الأمرَ لترافقَني بعد أن اقتنعتْ تماماً بنظريةِ النشوءِ التي أؤمنُ بها، وبأن الأرضَ لمْ تكنْ لنا يوماً، ولن تكونَ، وما نحنُ سوى لاجئينَ فيها؛ فهي من ممتلكاتِ ذوي القلوبِ الميتةِ، والكروشِ المُندلِقةِ التي تصلُ إلى حلوقهِم، وأيضاً هي من أملاكِ الوقفِ لأصحابِ الجيوبِ المُنتفخةِ.
لا أدري فيما إذا كنتُ مُصيباً في آرائي أم أنني أهلوسُ جراءَ عزلتي وقربيَ الشديدِ من زرقةٍ لامتناهيةٍ.
 ذاتَ إعصارٍ، ارتفعَ المَدّ واختطفَنا مُحققاً بذلك رغبتي التي لمْ ترَ النورَ إلا بعدَ أنْ قذفَتْنا شرورُ الأرضِ ونزاعاتُ السُلطةِ، وتضاربُ الآراءِ السياسيةِ والبحثُ عنِ المعنى الحقيقيَ للحريةِ.
تُرى هل ستعترفُ بنا الأسماكُ بعد هجرتِنا الطويلةِ الأمدِ؟
 حين رأيتُ عيونَها اللامعةَ تتفحصُنا، انتابني خوفٌ شديدُ اللهجةِ؛ فأنا لم أرَ في نظراتِها أي ترحيبٍ، ازداد ثقلي بفعلِ الماء، غصتُ إلى القاعِ وبصحبتي "نها" المسكينة التي صدقَتْني وآمنتْ بي. منَ المؤكدِ أننا سنكونُ وليمتَها العامرةً وغداً ستعلقُ في شباكِ صيادٍ ماهرٍ بعدَ التُخمةِ التي ستُصابُ بها حين تنتهي منا نحن الاثنين، وستغدو وجيةً دسمةً في طبقِ أحدِهِم، ربما يكون الحاكمُ أو أحدُ معاونيهِ، وستزينُ موائدَهُم الفخمةَ كمستحاثاتٍ ترابيةَ اللونِ.
 هذا ما حدث للكثيرين ذاتَ ثورةٍ على اليابسةِ.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق