تهتم مجلة سومر بنشر:

06‏/05‏/2016

رفيف الكأس.. قصة قصيرة.. للقاص: عبد الكريم الساعدي

 
 القاص عبد الكريم الساعدي

      في تمام الفراغ، تمام التيه، وعند منتصف الهيام بعدما ملأ الشيب خافقي، ورأيتني وحيداً متوجعاً، تحرسني أطياف الغربة، مطوّقاً بأسر السنين، عصفَ بقلبي الحنين لأيام خلت، رحت أقلّب وجوه العابرين، هي تصبو لعوالم وأمكنة ومواعيد، لم تنكرني من قبل، تلفّ ملامحي بأضوائها، تنثل ببريق الغنج فوق كلماتي الآسرة لقلوب خافقة بالعشق. لقد أدمنت من قبل تلك الأزقة والدروب، اليوم أراها تنكر خطواتي، تسدل أجفانها، يغمرها الارتباك، تغزوها ملامح التيه، كلّ شيء يبدو غريباً إلّا الذكريات، ذكريات تبوح بجمال المكان الذي استقبلني بأطلاله الراقدة على حافة الخراب، المساء يحملني عطشاً، يحلّق بي في عتمة من أنين، وقبل أول منعطف يرقد في دفقة مطر، استوقفتني حانة قديمة، تعانق طرف نهرٍ غادرَ ضفافه متعثّراً بالجفاف، مذ غادرت موائدها مازالت تحمل جرارها، تدخن رعشتي، منبسطة كغانية ثملة، تضاجع كأسي الأولى، طرقت بابها، باب خمورها، الحانة تمسّ طيفها، تفتح ذراعَي نافذة من بوح، الهمس يتسلّق معارج حقول العشق، النبيذ أنهار من ذكرى، أنهار من وجعٍ لذيذ، وأسى شفيف. الخطى كلّها لاهثة، تائهة، تطرق باب الحانات واحدة تلو الأخرى، نادل أنيق خلف الطاولة، ينقرها بأنامل من دخان، يفزّ السكارى بطيفك عند دموع غيمة عابرة شفّت عن حزنها، صاحوا بصوت واحد:
- نعم سيدي النادل.
- أرووا عطشي من دموع تلك الغيمة العابرة.
ما لي أرى كلّ شيء بالمقلوب قبل أن أحتسي رفيف نشوتها؟ 
- سيدي النادل " أدر كأسي القديمة واسقني، لعلّي أرى النشوة مرة أخرى، فبعد العشق ما عادت خمور الكون تعنيني، كسرت زجاجتي وانتشيت عبيرها سحراً، أنا فقير خمارة الدنيا، وكأس منك تُغنيني".
ورحت أعبّ كأس المنى، كأساً بعد أخرى، أسكب فتنتها في ثنايا الحريق. ولمّا شفّ الليل عن دجاه، جال في الأرجاء خدر، وطاف بي نعاس حين وخزني القرب. الحانة تنوء بالهيام، أنتصب دهشة حين طال الانتظار، تراني أطوف حول الأرجاء، أبحث عنك، أتجشأ بعضي، وفي غياب الحضور أراني أحبس رغبتي وسط سماء من ذهول، كنت وما زلت أبحث عنكِ، أنت هنا، لا هناك، في كلّ مكان أنتِ، لن أغادر حانتي فأنت هنا، جدائل نشوتك تهزّني، تراقص المكان، عطرك، آه من عطرك يعبث بأنفاسي، لونك الأبيض، أبيض مثل حليب الأمهات يرتشف شفتيّ، اقتربي أكثر من ثرثرتي، مازلت أراكِ تشعّين في كأسٍ من شهوة أو من لذّة، أراك كؤوساً من رغبة تملأ العين سحراً، رغبة تحلّق في عوالم أخرى، أكاد لا أرى سوى ضباب كثيف لكنّه جميل، أتجشأ بعضي الآخر. أصابتني الدهشة لمّا حدّقت في مرآة الحانة، لم أكن أنا موجوداً حين تجشأت ما تبقى مني، أغير موجود أنا؟
- سيدي النادل، ألا سقيتني من رضاب قوافيها، لا أثرَ لغيري، ربما كانوا أشباحاً. صوت النادل يأتي من خلف الطاولة:
- لم يبقَ غيرك.
- والندامى، أين الندامى؟
أسقطُ خلف الصوت حفنة من تجلّي. يحملني الوله إليها:
- ألم تكن هنا ؟
- حذارِ، لا تفقد خطواتك، كانت هنا منذ كأسين.
عبدالكريم الساعدي
العراق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق