تهتم مجلة سومر بنشر:

12‏/06‏/2018

أمّي القدّيسة.. قصة قصيرة بقلم القاص/ عبد الكريم الساعدي




عندما كنت هناك بين غفوة مساء وغفلة خداع تثاءب الوجع حلماً مغلولاً بالصمت، حملت شوقي وحنيني بلهفة طفل حيث العالم السفلي؛ لعلّها تضمّني بين خوافي دفئها،أمسح الغبار عن الشاهد، (كلُّ نفسٍ ذائقة  الموت)*،أشعل عود البخور، أرشّ ماء الورد، أرتّل سورتي الفاتحة ويس بخشوع، أمدّ كفّي نحو السماء؛ فيضوع المكان بعطرها. كانت هناك قبل الرحيل بخطوتين، الهناك متّشح بزمن شاحب بالوهم ينذر بالتيه والخذلان، يتلو عليها سيرة الرحيل حين أعلن النهر انتحاره عند طرف جدائلها، فانسلّتْ من غلالة حرائق الجفاف تبحث عن موطِئ حلم، كانت الخطوات مهداً من دمع، وكنتُ أنسج لهاثي تحت دفء مئزرها، أسمع أنين صمتها وأشمُّ احتراق أحلامها النافرة. لم تكن أمّي كباقي النسوة تقنع بالهزيمة حين كانت الشواطئ تنذر بموت العشب، وكان وجه الأرض يعوي من قلب بستانها أغنيات حزينة ترفع شراع الخوف والألم والعجز، حين كان الجميع هائماً بالاحتمالات، يبحث في الأنقاض عن دليل أو شفّة رصيف أو ضفة نهر، كانت تتوثب إلى ظلّ جذع نخلة رغبة لأمل يطلّ من نافذة صبرها، يتوق إلى نبع عينيها الصافيتين. تحدّثت إلى النهر بعتب شديد، عتب مشدود بالدمع والآه، رمقت بطرف عينيها صمت الأرض وحزن العشب الحالم بالضوء، بكت بلوعة لمشهد أشجارها اليابسة وغياب ظلّ الظهيرة. ولمّا أزف الرحيل لملمت أسمال وحدتها بعدما تكحّلت بالصبر، تعطّرت برائحة الطين، شدّت على خصرها حبل العزيمة، لم أنس تلك الابتسامة وقبلتها التي طبعتها على طرف خدّي الأيمن بعدما دثّرتني بتميمة جنوبها: 


- حافظ عليها من الضياع، يا ولدي. 
- وما فائدة هذه الخرقة؟. 
- لا تقل خرقة، ستحرسك من الأشرار. قالت ذلك، وكأنّها توحي إليّ بمشقات القادم من المجهول، ترسم طريقاً معطّراً بالأحجيات. أطلقتْ في كوخٍ يتدثّر برعشة القصب والبردي بخورَها تحت ظلال سكينة ستصبح ذكرى بعد حين من الزمان، وقبل الرحيل بخطوة التهم الوهم ما تبقّى من طفولتي. كانت النهارات فتنة ممتلئة بالأسى والغواية، والليل ينذر بيأس أعمى، وأنا ما زلت ألهث خوفاً خلفها، ممسكاً بطرف عباءتها، كانت تطفئ يأسي وخوفي بابتسامة شفيفة، تأسر بها ضوءاً أعزل، تحوكه بصلاتها شراع حلم يهفو لسفن النجاة، تتوسّد أنفاسها بين الحركة والسكون، مسندة رأسها لقنديل أبي المتوهج بالغياب. 
- إلى أين يا أمّي؟ وهل سنترك أرضنا؟ 
كانت الخطوات القادمة حاجزاً يرتبك بالضباب، ويضيق به المدى، وأنا تحتلّني الوساوس ويدركني ظلّ من حسرات، فكم من لعب الطفولة غابت فوق أرض مفجوعة بالوحشة وتحت سماء غاب عنّها السحاب، وكم من أحلامٍ ذوت في أفق الخيال، ولمّا لفظت السواقي آخر أنفاسها طلّت الغربة بوجهٍ من رخام، فلم يبقَ غير مرايا خلعت براقعها؛ لتكشف عن ساقَي فتنة مزيّنة بالقهر والعوز والحرمان، مرايا خلعت خلخال عشق الأرض لندى الفجر، وأطفأت أوكار الدفء؛ لتصافح ألم القادمين، 
- أمي، هل سنرجع يوماً ما إلى قريتنا؟ 
حدّقت في وجهي بألم شديد، مسحت بطرف (شيلتها) دمعة انحدرت على طرف خدها: 
- يا مهجة قلبي،(سيأتي يوم، يصبح فيه لنا أن نركض أو نصرخ حيث نشاء، ونلعب حيث نشاء، وقد نترك للبحر بأن يتلألأ بين أصابعنا)*
كنّا مثل طيور مهاجرة غاب عن أفقها رائحة الطين ودفء تنور أمّي، رائحة الأهوار المدافة بالعشق والسكينة، كنّا مثل ذكرى مهدّدة بالنسيان، نبحر نحو المجهول دون معرفة وبلا شراع، نحو خرائب غاصة بالعتمة، يجثو فوق جثتها ضجيج المدن وصراخ عالم يكتنز بين محجريه نصف عين تعصف برغبات مجنونة. نتوسّد ضفاف (شطيط) الحالم بعطش وجوه شاحبة. وحين رصدت مرايا الغربة آخر خطواتنا، لملم الجميع أحزانهم، وهم يطوفون غرقى حول بحرٍ يعجّ بالموت والحياة، يتمرّغ على أهداب حيرتهم تراب قرى ستغيب إلى الأبد، غفت العيون على بحر من الظنون، ظنون تبرق بالدمع والخوف من غياهب الغربة وطقوس شتّى لم يألفها الجميع، أعدها القدر لهم سلفاً. كنّا خطيئة الطغيان، حاك خيوطها الزمن على حافة ربيع موهوم، نراقص أوهام الغد، ونضحك من عذاباتنا، عذابات لن تفارق أرواحنا وكأنّها علامات فارقة خطّها الوجع فوق محيّانا، نحمل رؤوسنا فوق الكفوف، متأهبين للموت كلّ حين، أقدامنا ضائعة بين هجير الإثم وفطرة قُرآنا المنسيّة، أدمنّا الذكرى وقبور الموتى، نغفو في جفون صرائف طينية أغنية تحكي نبوءة الخراب الممتدّة بين سحر الخطيئة وبين مآتم لا نعرف كيف تلاشت. 
- أمّي، ألم تسمعي ندائي؟ لِمَ كلّ هذا الصمت؟ لو كنتِ تمرين هنا لطلبتُ منكِ الحلوى وسألتك مرّة أخرى، متى نعود لطيبة قرآنا الجميلة، يا أمّي؟ لرأيتكِ تقولينَ كما قلتِ بالأمس: 
( سيأتي يوم، يصبح فيه لنا أن نركض أو نصرخ حيث نشاء، ونلعب حيث نشاء، وقد نترك للبحر بأن يتلألأ بين أصابعنا). 
وها أنا وبعد خمسين طقساً من الفصول أنتظر ذلك اليوم، فهل يأتي يا ترى؟. 
أمسح الشاهد بكفي مرة أخرى، أمرّر أناملي فوق اسمها، أقبّله، تنتفض أضلعي شوقاً لكفّيها، أحث القلب لشواطئ دفئها، أعبر بخفّة إليها، أندس في مئزرها؛ فأغفو هناك. 
------------------------------------------------------------------------------- 
*أوهام ريفية-3/ شعر- ص 38

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق